شخصيات كتابية
تسجيل

شخصيات كتابية (استفانوس)

كان استفانوس من أعظم الشخصيات التي ظهرت في الكنيسة الأولى، وكان في عمله ومعرفته وفصاحته وحياته، أقرب إلى بولس من الرسل الاثني عشر. وحسب المنطق البشري كانت حياته لازمة للكنيسة، كما كانت حياة بولس سواء بسواء، لكن اللّه في حكمته العليا، كان يقصد أن يكون موته، لا حياته، هو سر النجاح والحياة والقوة لهذه الكنيسة. ومع أننا لا نعلم الفترة بين استشهاده ومجيء بولس إلى المسيحية، لكن بعضهم يرجح أن هذا حدث في نفس السنة أي في عام 36 أو 37 م ، وقد حاول بولس أن يتخلص من منظر استفانوس وهو يموت دون جدوى، والمعتقد عند أوغسطينوس أن هذا المنظر هو الذى هزه من الأعماق، وحاول مغالبته بالإمعان في رفس المناخس واضطهاد المسيحيين حتى التقى به السيد في طريق دمشق. كان موت استفانوس بدء شرارة الحياة في قلب بولس. بل كان موته في الحقيقة بدء نهر الدم العظيم الذى روى بذار الكنيسة في الأرض. وقصته العظيمة جديرة بأن تحكى وتروى فيما يلي:

.

 استفانوس ومن هو :

إن الاسم " استفانوس " يعنى " تاج " أو " إكليل " وليس من السهل أن نعلم الكثير عنه خارج ما كتب في سفر أعمال الرسل. هو أول جندي من جنود المسيح فاز بالتاج أو الإكليل. رآه بولس وهو يموت، فعاشت الرؤية في كيانه وأعماقه، ولم يستطع نسيانها أو التخلص منها. وأغلب الظن أنه عاش يراها إلى اللحظة الأخيرة. ومع أنه مر بالتاريخ والكنيسة مثل هذه الومضة، إلا أن وهج حياته القصيرة عاش ويعيش خالداً على مدى الحياة.

لم يكن يهودياً - كما هو ظاهر من اسمه - من يهود فلسطين، بل أغلب الظن أنه كان من يهود الشتات أو المهجر إذا جاز التعبير، أما اسم أبيه أو أمه فلا نعلمهما.

هو واحد من خدام اللّه الذين لم تطل خدمتهم بالمعيار الزمنى أكثر من ثلاث سنوات، ومع ذلك فهي خالدة ولاتقل اهمية عن خدمة الرسول يوحنا التي طالت حتى نهاية القرن الأول الميلادي. وللّه في حكمته ما يعلو على الذهن البشرى.

تُرى كيف نصفه، وما مفتاح حياته. يبدو أن خير كلمة تصف حياته بأكملها هي كلمة "ملاك". عندما وقف أمام المجمع للمحاكمة قيل عنه: " فشخص إليه جميع الجالسين في المجمع ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك " ( أع 6 : 15 ) .

وصفه الكتاب بالقول: "مملوءاً من ... الروح القدس" (أع 6 : 5) ، إن كل مؤمن يأخذ من اللّه شيئاً، لكن الفرق بين مؤمن ومؤمن هو الفرق بين من يسكن فيه روح اللّه ومن يمتلئ بروح اللّه.

ووصفه أيضاً " مملوءاً من الإيمان " ( أع 6 : 5 ) وما الإيمان إلا أن يطل المرؤ ببصيرته إلى الأمام ويتشدد لأنه يرى من لا يرى. لقد رأيناه في اللحظة الأخيرة من حياته يرى السموات مفتوحة، ولنا أن نتأكد تماماً أنه عاش وعينه على الدوام مفتوحــــة على العالم الأبدي.

كان أول السبعة المشهود لهم " مشهوداً لهم " ( أع 6 : 3). على أنه أكثر من ذلك كانت فصاحته لا تبارى، حاج الكثيرين من اليهود في مجامعهم ، فعجزت حجتهم عن البلوغ إلى مستوى حجته، وقصر بيانهم عن الوصول إلى بيانه، ولم يستطيعوا أن يقاوموا الحكمة والروح الذى كان يتكلم به.

كان استفانوس في قوة التدبر والتدبير، كانت حكمته واسعة في مواجهة المتطلبات المتعددة وكان صاحب المشورة النافذة والحكمة السماوية النازلة من فوق. وكانت له قدرة الملائكة في صنع العجائب والمعجزات، وما اكثر ما جرت على يديه آيات وعجائب رآها الجميع ومست حياة الكثيرين.

استفانوس الشماس

إن ظهور نظام الشموسية في الكنيسة يثير أمامنا عدة قضايا بالغة الأهمية، ولعل أول قضية يثيرها هي التمييز بين إنجيل الخلاص والإنجيل الاجتماعي، وكان إنجيل الخلاص له السبق ولا شك قبل الإنجيل الاجتماعي، وفى الحقيقة كان الرسل على صواب عند الموازنة بين الإنجيلين حيث فضلوا " الصلاة وخدمة الكلمة " (أع 6 : 4) على الخدمة الاجتماعية، فاختصوا هم بالأهم، وتركوا الخدمات الأخرى لغيرهم من المساعدين. عندما جاء المسيح إلى الأرض، كان واضحاً أنه جاء ليكون مخلصاً للعالم، وأنه اهتم بشفاء الجسد وإطعام الناس، وهو يفكر دائماً في النفس " لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. أو ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه ( مت6 1 : 6 2 )

حسن أن تنشئ الكنيسة المستشفى والملجأ والمدرسة والنادي، ولكنها قبل هذه جميعها ينبغي أن تنشئ اجتماعات الشباب، ومدارس الأحد، وحلقات الصلاة، وخدمات العمل الفردي لربح النفوس. والنشرات، والنبذ والكتب التي تنادى بكلمة اللّه، بل إن الإنجيل الاجتماعي بكافة وسائله وأساليبه ينبغي أن ينتهى فيه الطريق إلى إنجيل الخلاص، فالخلاص أولا والخلاص أخيراً هو هدف الكنيسة ورسالتها بين الناس الذين جاء المسيح ليموت من أجلهم على هضبة الجلجثة.

قضى استفانوس على الأغلب ثلاث سنوات في عمله كشماس، وما من شك في أن خدمته امتلأت بروح العطف والحنان من نحو الجميع، ولا سيما الأيتام والأرامل والمحتاجين والبؤساء.

كان دونالد ماكلود الواعظ الاسكتلندي المشهور يسير ذات يوم في شوارع أدنبره، عندما اقترب منه صبى وطلب أن يمسح له حذاءه، وكان اليوم شديد البرد، والولد يرتعش، وابتسم ماكلود في وجه الغلام وسمح له، وقال ماكلود للغلام وهو يقوم بعمله : يا بنى هل أنت بردان مقرور. فتردد الصبى قليلا وهو يقول : لقد كنت كذلك يا سيدى إلى أن ابتسمت في وجهي.

من المؤكد أن استفانوس ابتسم في وجه الكثيرين، ولم يتركهم في بؤسهم أو آلامهم بل تحولوا من البؤس والألم والحزن إلى الفرح والبهجة والرضا والسكينة!

استفانوس المدافع عن الحق

لم يقف استفانوس عند حدود كونه شماساً بالكنيسة، والرجال العظام لا تحدهم الأعمال التي يكلفون بها. لقد برز استفانوس ووقف في الطليعة بين أبطال المسيحية الذين خلد التاريخ كفاحهم وبطولتهم في الدفاع عن الحق، لقد برز كواحد من أبرع المدافعين عن المسيح والكنيسة، وأغلب الظن أنه كان ينتقل بين المجامع اليهودية يعظ ويتحدث ويشهد لسيده شهادة قوية أمينة، وكان في أورشليم في ذلك الوقت ما يزيد على أربعمائة وثمانين مجمعاً، ونحن لا ندرى هل كان مجمع الليبرتينيين والقيروانيين والاسكندريين والذين من كيليكيا وأسيا الذين حاوروا استفانوس هو مجمع واحد أو أكثر من مجمع، إنما نعلم أن جميعهم من اليهود الغرباء فالليبرتينيون هم أبناء اليهود الذين سباهم بومبي عام 63 ق. م وأسكنهم في روما ثم منحوا الحرية بعد ذلك, فجاء فريق منهم إلى أورشليم مرة أخرى. والقيروانيون والاسكندريون من يهود القيروان والإسكندرية. ويهود كيليكيا وأسيا، من الذين قطنوا أسيا الصغرى وكان منهم شاول الذى أصبح فيما بعد الرسول بولس. هؤلاء تجمعوا على استفانوس وحاوروه محاورات انتهت بتفوقه عليهم، وبحقدهم عليه، وتدبير المؤامرة التي انتهت باستشهاده . على أيّة حال إن استفانوس يقف على رأس ذلك الصف الطويل الذى أطلق عليه اسم المدافعين المناضلين، أمثال أكليمندس وأغناطيوس وبوليكاربوس ومارتن لوثر وماندل وغيرهم من قافلة الفكر المسيحي. فإذا ذكرنا لهؤلاء جميعاً، عظمة الدفاع عن الحق المسيحي، فلا يجوز أن ننسى أن استفانوس كان أول المحاورين والمدافعين عن الحق في فجر المسيحية وهى تبزغ بضوئها العظيم منذ ذلك التاريخ !! ...

استفانوس الشهيد

قُدّم استفانوس للمحاكمة أمام السنهدريم وأتُهم بالتجديف على اللّه وموسى والناموس والموضع المقدس كما زعم مضطهدوه. ربما أخذوا من كلامه ما أضافوا إليه أو أنقصوا منه ماجعله يبدو في شكل تجديف. ويُعد دفاع استفانوس من أروع ما سجل التاريخ البشري، إذ حمل ميزتين عظيمتين، ونعنى بهما جمال الاستهلال، وعمق الحق. ومع أنه استعرض التاريخ اليهودي المحبوب على أسماع قضاته، لكنه قادهم وهم لا يدرون إلى الحقيقة القاسية المرتبطة بتاريخهم، وهى أنهم امتداد مستمر لأبائهم العصاة المتمردين على اللّه. ونحن نلاحظ هنا أنه لم يستعطف قضائه أو يتملقهم على حساب الحق!! ولا أستطيع أن أقف من استفانوس متعجباً، وهو لا يفزع أو يخاف، دون أن أذكر - على التو - ما حدث في مجمع ورمس حيث وقف لوثر وقفته التاريخية المشهورة في ذلك اليوم!. لقد تعرض لوثر للضعف وطلب مهلة للإجابة على الأسئلة الموجهة إليه، فأعطيت له مهلة يوم واحد، وقد قضى الرجل الليلة التي سيقف بعدها في الغد للإجابة العتيدة، في صراع مع اللّه، وهنا استقرت نفسه وهدأت، وقرر أن يعطى الجواب الأمين، مهما كانت النتائج التي ستتمخض عنه. كان قربه من اللّه هو الذى ألهمه الشجاعة التي لا يملكها إنسان مهما كان خارق الجسارة أو البطولة دون مساعدة اللّه.

وقد شاء اللّه أن يقترب من استفانوس في أحرج ساعة له على الأرض، فانفرجت السماء عن العرش العظيم والمسيح القائم عن اليمين، وهنا ارتفع الرجل فوق البشر والظروف، وتملكته القوة الخارقة التي تسيطر عادة على الأبطال والشهداء في أعظم المواقف التي يتعرض لها الإنسان بين الناس، وهنا نرى بطولة الشاهد، وبسالة الشهيد. هنا نرى الوجه وقد أضاء بلمعان سماوي، فلم يعد وجه إنسان، بل أضحى وجه ملاك. وفى الحقيقة إن استفانوس كان قريباً جداً من السيد، ويكفى أنه والحجارة تنهال عليه، فعل مثل سيده تماماً وهو على الصليب، فلن يطلب الغفران للمسيئين إليه، كما غفر المسيح فحسب، بل صلى أيضاً مثل سيده وهو يستودع روحه : " أيها الرب يسوع أقبل روحي !! ( أع 7 : 59 ) وحيث أنه مات رجماً بالحجارة فمن المعتقد أن هذا حدث على الأغلب، في آخر عام 36 أو أوائل عام 37 م، في الوقت الذى دعت فيه روما واليها المعروف بيلاطس البنطى لتحاسبه على جرائمه المتعددة، ولم تكن قد أرسلت خلفاً له، فأتاح هذا لليهود فرصة الحكم عليه بالإعدام وتنفيذه بعيداً عن تدخل الرومان. ومن المعتقد أن الرجم حدث شرقي الهيكل على حافة وادى قدرون بالقرب من باب دمشق الذى كان يدعى فيما مضى باب استفانوس.

ومن الواضح أن موت استفانوس لم يكن عميق الأثر في حياة ذلك الشاب القديم الذى كان حارساً لثياب قاتليه فحسب، بل تحول في مجرى التاريخ ليكون عظة بالغة، من غير حدود في حياة الملايين من البشر في الشرق أو الغرب على حد سواء. ولعلنا نختم هنا بما قاله سِر توماس مور للقضاة الذين حكموا عليه بالموت على أثر نطقهم بالحكم: أيها السادة ولو أنكم حكمتم علىَّ ظلماً لكنى اود أن أقول: إن بولس كان حارساً لثياب الذين قتلوا استفانوس، والآن هما صديقان معاً في السماء. وأنا أصلى أن يكون الأمر أيضاً معنا كذلك لنلتقي فيما بعد في السماء.

وهكذا كان استفانوس رائعا في حياته القصيرة على الأرض، وأروع في الشهادة الأمينة التي ختمها بدمه واستحق إكليل المجد الذى لا يبلى في السماء.